مفهوم "العوائق(المشاكل) والأولويات" في صنع السياسات العامة
مقدمة:
لقد أدركت الحكومات على تباين أنظمتها السياسية واتجاهاتها الفكرية أنها بحاجة إلى دعم ومساندة شعوبها لما تتخذه من قرارات، وما تقوم به من أعمال متنوعة في جميع الظروف والأوقات. وحتى يتحقق لها ذلك، فأنها أخذت تسعى جاهدة إلى حل مشاكلهم والاستجابة لمطالبهم المتنوعة من خلال مجموعة من الخطط والبرامج (يطلق عليها السياسات العامة) الهادفة إلى تحقيق جملة من المنافع وتخفيف المعاناة عن الغالبية منهم.إن ما يميز السياسات العامة هو خصوصية المشاكل التي تتميز بها عمليات صنع السياسات العامة من جهة، وضرورة إبراز أولوياتها في نهاية المطاف من جهة أخرى، وهذا ما يدعو إلى الاهتمام بصياغتها أو رسمها بشكل يؤدي إلى زيادة فرص نجاحها وتحقيق المنافع المتوقعة عند تنفيذها، وتقليل احتمالات فشلها إلى أقل نسبة ممكنة. فالسياسات العامة التي تصاغ بشكل دقيق بالاعتماد على معلومات ومعطيات صادقة وصحيحة، تجنب المجتمع الكثير من التضحيات والآلام والإحباط الذي يصاحب تنفيذ السياسات العامة الفاشلة أو المرسومة بشكل غير صحيح..
أولا:العوائق:
يمكن تعريف المشكلة لأغراض صنع السياسات العامة بأنها: " موقف أو حالة تحرك الحاجات والشعور بعدم الرضا لدى أفراد المجتمع. مما يدفعهم لطلب العون أو بتدخل الحكومة للمساعدة في إزالة ما يعانون منه" فعلى سبيل المثال يمكن اعتبار تفشي الجريمة أو البطالة أو ارتفاع الأسعار (التضخم) أو تفشي الأوبئة والأمراض وانتشار الآفات الزراعية وتلوث البيئة ونقص الغذاء وصعوبة المواصلات وازدحام الطرق وتدني مستوى الخدمات العامة وتفشي الرشوة والمحسوبية وغيرها، مشاكل تدعو صانعي السياسة العامة لدراستها وتحليلها من اجل وضع المعالجات الضرورية لان مشاكل كهذه تثير اهتمام وقلق شريحة – أو أكثر – من شرائحه أو فئاته الاجتماعية أو السياسية وقد يمتد تأثيرها ليشمل المجتمع بكامل فئاته. كما عرفت المشكلة بأنها: "حاجات غير مشبعة وقيم غير مدركة أو مفهومة يمكن إشباعها أو تحقيقها بالنشاط أو الفعل الحكومي"" وان المعلومات الضرورية لمعرفة طبيعة المشكلة والحلول اللازمة لها يمكن الحصول عليها باستخدام أساليب التحليل المتنوعة. ومما تجدر ملاحظته أن المعنيين بحل المشاكل العامة غالباً ما يفشلون في اختيار الحلول المناسبة لمواجهة مشاكل السياسات العامة بسبب فشلهم في اكتشاف أو معرفة الأسباب الحقيقية للمشكلة العامة. إذ أن الصياغة الدقيقة للمشكلة ينتج عنها – في الغالب – حلولُ صحيحة وقد قيل قديماً: إذا عُرِفَ الداء سهل وصف الدواء فبعض المختصين بصياغة مشاكل السياسات العامة وتحليلها، ينظر إلى نتائج المشكلة على أنها المشكلة ذاتها لان النتيجة التي تؤدي إليها المشكلة هي الجانب المنظور منها، مثال ذلك، " كثرة الغيابات أو دوران العمل "، الذي تعاني منه بعض المؤسسات الحكومية والخاصة، إذ يتوهم بعض المعنيين بأنها هي المشكلة من غير أن يبحث في الأسباب التي أدت إليها ونتج عنها تغيب العاملين أو تركهم لوظائفهم في هذه المؤسسة العامة أو تلك.
إن مشاكل السياسات العامة كثيرة ومتنوعة، ويصعب اتفاق المعنيين على تحديد مكوناتها وأسبابها، وأساليب التعامل معها، مثل: التضخم، الانكماش، البطالة، الجريمة، الفقر، التلوث، وغيرها. إذ أن هذه المشاكل وأمثالها غالباً ما تتباين وجهات النظر حولها بين المهتمين والمعنيين والمختصين أنفسهم من جهة، وبينهم وبين المواطنين من جهة أخرى. ففي حين ينظر إليها بعض المعنيين على أنها مشاكل حقيقية يعاني منها المجتمع، ولا بد من وضع الحلول الناجعة لها، بينما يرى البعض الأخر منهم على أنها مجرد حالات تتشابك مع تحقيق بعض القيم والحاجات الشخصية لعدد من الأفراد، وأنها لا تستحق أن تأخذ صفة المشاكل العامة. ويمكن عدّ التلوث من الأمثلة على ذلك، فقد يُعُدّه بعضهم حالة طبيعية في المجتمعات المعاصرة نتيجة للتقدم التقني والحضاري الذي تشهده هذه المجتمعات، وبالتالي لا داعي للاهتمام له، وتخصيص المبالغ، وحشد الموارد للحد منه أو معالجته. في حين يراه غيرهم مشكلةً تمس أفراد المجتمع جميعهم وانه من اللازم عدّه من المشاكل العامة المهمة، التي تحتاج إلى وضع الحلول اللازمة لها، وهذا يعتمد على مجموعة من العوامل منها:
1ـ طبيعية مشكلة التلوث: من حيث كونها مشكلة اقتصادية أو إدارية أو اجتماعية .
2ـ أسبابها المتمثلة بعوادم السيارات، أو الغازات المتصاعدة من مداخن المصانع المتنوعة، أو رمي النفايات والمياه الثقيلة في الأنهار والجداول وغيرها.
3ـ مدى خطورة المشكلة واتساع نطاقها:
ومن المفيد ان ننوه الى ان المشاكل على كثرتها وتنوعها لا تثير جميعها اهتمام صانعي السياسات العامة، الا عندما تكون واضحة. إذ ان هذا النوع من المشاكل يسبب قلق افراد المجتمع ويدفعهم الى القيام بأفعال قد تكون خارجة على الأعراف أو القوانين المتبعة.
وهذا يعني ان بعض المشاكل تأخذ طريقها الى راسمي السياسات العامة، ويهمل بعضها الاخر أو يؤجل الى وقت لاحق، وذلك بحسب أهميتها، وتأثيرها على جماعة أو اكثر من الجماعات المؤثرة في المجتمع فقد تعيش فئة من المواطنين في بيئة غير ملائمة ولكنهم لا يبدون تذمراً، ولا يطالبون بتحسين بيئتهم أو تغيرها، فكأنهم قانعون بوضعهم هذا أو ان قناعتهم هذه قائمة على عدم امتلاكهم وسائل التأثير في المجتمع. فحالة كهذه لا تعد مشكلة بحسب تعريفنا السابق، اذ لم يقم احد بطرحها أو ايصالها الى الجهات الحكومية بصيغة مطلب جماعي أو مشكلة تحتاج الى حل. فالمشاكل اذن لا بد ان تكون واضحة ليسهل ايصالها الى الجهات المعنية في الجهاز الحكومي.
وثمة سؤال آخر يجب الوقوف عنده ومحاولة الاجابة عنه وهو: هل ان المشكلة التي تنال الاهتمام هي التي يعرضها المعنيون بها من متضررين وغيرهم ؟ وهل هناك أسلوب آخر لإظهارها ؟ الجواب: نعم، فهناك مطالب او قضايا يعرضها أفراد أو جهات من غير المتضررين منها، فتصبح مشاكل ملحة تستحوذ على جزء كبير من اهتمام صانعي السياسات العامة، مثال ذلك، قيام محرري الصحف، أو جماعات المصالح أو السياسيين بإثارة الضجيج، والقيام بمجموعة واسعة من الاتصالات حول ارتفاع منسوب المياه الجوفية في منطقة ما، أو ارتفاع معدلات حوادث المرور، على سبيل المثال، مما يجعل منها مشكلة ملحة تحتاج الى حل أو مطلباً لا بد من العناية به، أكثر بكثير مما يفعله الذين يقطنون تلك المنطقة، أو المتضررين من حوادث المرور. وحتى نفهم ونميز مشاكل السياسات العامة عن سواها من المشاكل أو القضايا فإنها تتميز بخصائص أو بامور منها:
• التبادلية: فمشاكل السياسات العامة تؤثر وتتأثر بعضها بالأخر، فهي متشابكة وذات أجزاء مترابطة من نظام متكامل وليست منفصلة عن بعضها تماماً.
• الذاتية: بمعنى ان تصنيف الظروف الخارجية أو الداخلية التي تنشأ عنها مشاكل السياسات العامة -وتفسير تلك الظروف وتقييمها – يتم وفق الخبرات الذاتية أو الشخصية للقائمين بصياغة السياسات العامة، أي ان لشخصية راسم السياسات العامة ومحللها واتجاهاته تأثيراً واضحاً في تفسير مشاكل السياسة العامة وتحليلها وتحديد أسلوب معالجتها.
• الوضعية: أي ان مشاكل السياسات العامة في الغالب تكون من صنع الأفراد أو الجماعات، فهي توجد أينما وجدت التجمعات البشرية.
• الديناميكية: ويقصد بها ان لمشاكل السياسات العامة حلولاً بقدر التعاريف المحتملة لها، بمعنى انه لا يمكن الجزم بوجود حدود بينة أو علاج محدد لاية مشكلة من مشاكل السياسات العامة.
أنواع مشاكل السياسات العامة:
يمكن أن نميز بين المشاكل أو المطالب وفق مداخل عديدة، لعل أهمها: مدخل الشمولية، ومدخل الموارد، ومدخل البيئة، فمن حيث الشمولية يمكن تصنيفها إلى مجموعتين هما: المشاكل الخاصة، والمشاكل العامة. فالمشاكل الخاصة:- هي تلك المعانات أو المطالب التي تخص شخصاً واحداً من افراد المجتمع، فعدم حصول أحد أفراد المجتمع على دواء معين، هي قضية متعلقة به فقط، ولا تهم غيره، فهي اذن مشكلة خاصة، كما ان تسريح عامل وطرده من العمل هي قضية لاتخص أحدا" غير ذلك العامل ، اما المشكلة العامة فهي تلك التي تتأثر بها مجموعة من الافراد وليس فرداً واحداً، وكلما زاد عددهم، احتلت مشكلتهم اهمية ً لدى صانعي السياسات العامة ومنفذيها. ففي مثالنا اعلاه، لو أن مجموعة كبيرة من المرضى لم يوفقوا للحصول على الدواء، فان ذلك يمكن ان يتحول الى مشكلة عامة، كذلك الحال لو ان عدداَ من المنظمات العامة أو الخاصة أو كليهما، قامت بتسريح نسبة كبيرة من العاملين فيها لظروف معينة، فان ذلك قد يخرجها من دائرة الخصوصية الى دائرة الشمولية فتصبح قضيةً عامة.
ومن المفيد الإشارة إلى أن بعض القضايا الخاصة يمكن ان تتحول الى قضايا عامة، عندما تتوسع دائرة المتأثرين بها. أو المتعاطفين معها. فلو ان احد الآباء دفعه التذمر من قيام أحد المعلمين بضرب ابنه في قاعة الدراسة، الى الاحتجاج لدى الجهات المعنية(كمديرية التربية) – مثلاً – أو ممثل منطقته في المجلس الوطني، فان ذلك لن يخرج تلك المشكلة من خصوصيتها لعدم إثارتها الاهتمام من طرف واضعي السياسات العامة. ولكن لو أن هذا الأب تصرف بشكل آخر، واتصل بأولياء أمور التلاميذ الآخرين، وأقنعهم بان أبناءهم سيكونون عرضة للضرب أيضا. إن لم يقوموا بعمل ما، وافلح في إقناعهم بذلك وحصل على تأييدهم له، وتعاطفهم معه، واستطاع ان يرفع مذكرة باسمهم جميعاً الى الصحافة، والجهات الحكومية المعنية، فتصل الى راسمي السياسات العامة وكأنها مشكلة جماعية، وذلك لاتساع دائرة المتاثرين بها، عندئذ تتحول الى قضية أو مشكلة عامة.
أما من حيث المجال، فيمكن تقسيمها الى نوعين هما:
• المشاكل الإجرائية: وهي تلك القضايا المتعلقة بكيفية قيام الحكومة واجهزتها المتنوعة بتنظيم شؤونها، وإدارة أعمالها وأنشطتها المتنوعة.
• المشاكل الأساسية: وهي القضايا التي تتعلق باهتمامات أفراد المجتمع، كحرية الرأي والتلوث البيئي والأجور والأمن الداخلي وغير ذلك.
ويمكن تصنيف المشاكل أو القضايا من حيث الموارد وتوزيعها إلى ثلاث مجموعات هي:
*المشاكل التوزيعية: وهي التي تتعلق بكيفية توزيع الموارد بين الأفراد أو الجماعات أو الأقاليم مثل مطالب مدينة ما بالسيطرة على الفيضان، وأخرى بمعالجة قلة المياه، أو مطالب المستوردين بتخفيض الضرائب الجمركية، والمنتجين المحليين بزيادتها، وغير ذلك.
* المشاكل التنظيمية: وهي التي تتعلق بتنفيذ التصرفات أو النشاطات العامة، أو وقفها، أو الحد من تدخل الآخرين في بعض المجالات. كمطلب الصناعيين وأصحاب الشركات بالحد من تدخل نقابات العمال، أو مطالب أصحاب السيارات القديمة بوقف إجراءات ترحيلها من العاصمة أو من بعض المدن الكبيرة الى مدن صغيرة أو غير ذلك.
* مشاكل إعادة التوزيع: وهي تلك التي تختص بنقل الموارد المتاحة من منطقة لأخرى، أو إعادة توزيع بعض المصادر أو الموارد المتوافرة في منطقة ما الى المناطق التي تفتقر إليها لتحقيق العدالة الاجتماعية. مثال ذلك. إعادة توزيع القوى العاملةالكفأة المتوافرة في العاصمة على المحافظات الأخرى، أو إعادة توزيع أساتذة الجامعات والمختصين من أطباء ومهندسين بين الجامعات والأقاليم، والمنظمات التي تعاني من النقص في أفراد هذه الفئات. أو إقامة مصانع في بعض المدن التي تشكو من البطالة أو قلة فرص العمل فيها أو فرض ضرائب تصاعدية لتقليل الفوارق بين الدخول، وغير ذلك.